قـــراءات

Monday, December 05, 2005

«مصر المحظورة»


الاثنيـن 05 ذو القعـدة 1426 هـ ، 5 ديسمبر 2005 العدد 9869
بقلم : د. مأمون فندى

فوز جماعة الاخوان المسلمين «المحظورة» في الانتخابات البرلمانية المصرية هو أمر مقلق على مستقبل اكبر دولة في «الشرق الأوسط» لأنه يعكس مشكلة كبرى داخل النظام السياسي المصري، كما أنه جزء من لعبة خطيرة بين أميركا والنظام المصري، أقول فوز جماعة الاخوان، واعني ذلك، رغم ان الارقام لا تعكس ذلك، فالاخوان حتى الآن لديهم أكثر من سبعين مقعداً، وقد يصل هذا العدد إلى ما يقارب مائة مقعد. أما الحزب الوطني الحاكم فهو على سبيل المثال لم يحصل على نسبة عشرة في المائة من دوائر محافظتي قنا والاقصر اللتين شهدت انتخاباتهما نفس النسبة، رغم ان الحزب الوطني على الورق فاز بعدد اكبر بعد ان انضم اليه من فاز من المستقلين. إذن الحزب الوطني اصبح مثل شقة مفروشة فمن اراد ان يستأجرها لفترة برلمانية واحدة يهدف الى تحقيق بعض الخدمات وليس لدور تشريعي للاعضاء.
فوز الجماعة المحظورة كما ذكرت هو مشكلة نظام كامل ولا غرابة في ذلك. فإذا نظرنا إلى مؤسسات المجتمع الرسمية من المدرسة، إلى المحاكم، إلى مؤسسة الزواج، إلى الاقتصاد، نرى بوضوح لا مجال لشك فيه، ان المؤسسات الرسمية والقانونية (Formal institutions) تتراجع أو تتآكل وربما تنهار في مواجهة المؤسسات غير الرسمية أو المحظورة والعرفية (inFormal institutions) وبهذا لا تكون هناك غرابة في فوز جماعة الاخوان المسلمين او اي جماعة اخرى غير رسمية، ولا غرابة ايضا ان يفوز المستقلون الذين يمثلون جماعات عرفية مثل القبائل في الصعيد على حساب الاحزاب الرسمية مثل الوطني والوفد والتجمع الخ..
هناك عشرون حزباً مصرياً غير الوطني لم تفز بعشرة مقاعد مجتمعة، أي أن القانوني والرسمي من الاحزاب ما هو إلا ديكور أو قشرة فارغة لا تحتوي إلا على صحيفة اسبوعية أو يومية وجماعة من الأفندية يتعيشون على التنطع وعلى دعم الدولة.. احزاب بلا جذور يجب حلها او الغاؤها تماماً لانها كذبة كبرى كما اثبتت الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
كما ذكرت، مشكلة الجماعة المحظورة هي مشكلة نظام بأكمله، ولننظر الى مكونات المجتمع الاخرى كي تتضح الصورة.
التعليم في مصر مثلاً لا يحدث في المدرسة، المدرسة هي مبنى مفرغ (Front) مثلها مثل كشك السجائر الذي يستخدمه رجال المباحث احيانا أو بائعو المخدرات كغطاء لاعمالهم الحقيقية، التعليم في مصر يحدث في البيوت في الدروس الخصوصية، مرتب المدرس الذي يتقاضاه نتيجة لعمله في المدرسة لا يساوي حتى واحدا في المائة مما يتقاضاه من الدروس الخصوصية، مثله مثل صاحب كشك السجائر بائع المخدرات خلف الكواليس، سجائر في النور، ومخدرات في الظلام. اذن تراجعت المدرسة واصبح دورها هامشياً مقابل الدروس الخصوصية.
وهناك أيضا تراجع مؤسسة الزواج الرسمية مقابل تصاعد ظاهرة الزواج العرفي حتى بين المتزوجين، وبذلك تصبح مؤسسة الزواج الرسمية مجرد قشرة أو غطاء مثلها مثل حزب الوفد أو التجمع، بينما الممارسات الحقيقية تحدث في الزواج العرفي، وزواج المتعة. زواج المتعة معناه أن هذا النوع من الزواج ممتع بينما الزواج الرسمي غير ممتع. اذا كان هذا هو حال الزواج في مصر اي زيادة نسبة المحظور على الرسمي فما الغرابة في أن تفوز جماعة الاخوان المحظورة على حساب الاحزاب «غير المحظورة» الاحزاب العرفية المفرغة من المضمون.
فوز المحظورة وسيطرتها على حساب الرسمية هو ايضاً ما يحدث في الاقتصاد، فكل دارسي الاقتصاد يقولون لنا وبوضوح ان حجم الاقتصاد غير الرسمي (unformal Economy) اكبر بكثير من الاقتصاد الرسمي، أي ان الاموال المكتنزة «تحت البلاطة» اكبر بكثير من الاموال المودعة في البنوك المصرية. ورغم وجود أموال كثيرة في المجتمع المصري إلا أن مشكلة مصر الحقيقية كانت خلال الخمس سنوات الماضية مشكلة سيولة مالية في البنوك رغم ان السيولة موجودة تحت البلاطة. فإذا كان الاقتصاد اكبر تحت البلاطة منه داخل البنوك والمؤسسات المالية الرسمية، أي أن الاقتصاد المحظور اكبر من الاقتصاد المنظور، اذن ما الغرابة في ان تحصل الجماعة المحظورة على كراس اكثر في البرلمان من الجماعات التي تبدو رسمية على السطح رغم أنها مفرغة من أي محتوى حقيقي ينفع الناس؟!
اذن من التعليم الى الزواج إلى الاقتصاد يتراجع الرسمي ويتعاظم دور المحظور، فما الغرابة في ان تفوز الجماعة المحظورة ضد الجماعات المنظورة، المصريون لا يثقون بالرسمي على ما يبدو ، يفضلون الاقتصاد المر على الاقتصاد الحر، يفضلون الدروس الخصوصية على التعليم في المدرسة. هذه المشكلة التي تضرب في عمق الدولة والمجتمع هي مشكلة شاملة (Systemic Problem) وليست مشكلة الاخوان المسلمين، وان لم تحل بشكل منظم يبدأ من المدرسة الى المصنع الى البنك الى الزواج، فمهما صرخنا «فاول» في حالة فوز الاخوان فإن المجتمع لن يسمع. فالمشكلة هي ان «مصر المحظورة» أكبر بكثير من «مصر المنظورة».
هذا على مستوى مشكلة النظام المصري، فماذا عن اللعبة المصرية الأميركية الخطرة التي اشرت اليها في بداية المقال؟!
يبدوأن استراتيجية النظام المصري التي سمحت للجماعة المحظورة بدخول الانتخابات المصرية وسمحت لها ان تحصل على ما قد يصل الى 20% (عشرين في المائة) من المقاعد البرلمانية، تهدف الى تخويف الأميركان من نتائج الانتخابات الحرة، لتستعرض مصر للأميركان عدد «الدقون» في البرلمان القادم حتى يذوقوا طعم ما ينادون به، سيرى الأميركان في البرلمان القادم، وسيسمعون حناجر الدقون الغاضبة التي ربما تعلن «الموت لأميركا» على غرار ملالي ايران من تحت قبة البرلمان. ومتى سمع الأميركان ذلك تراجعوا عن الضغط على النظام في اتجاه مزيد من الاصلاحات ومزيد من الحريات، سينزل الأميركان من على ظهر النظام. وبذلك تهرب الطبقة السياسية الحاكمة في مصر من دفع فاتورة الاصلاح. لا شك ان تلك مهارة سياسية من النظام، واعرف ان كثيرا من صانعي القرار في واشنطن «اغبياء» الى الحد الذي يجعلهم يصدقون لعبة التخويف بالدقون في البرلمان. ولكن اللعبة الخطرة لا تنتهي هنا.
فالأميركان لديهم لعبتهم ايضاً.
الأميركان فرحون بفوز الاخوان لسبب وحيد، في نظرهم وجود هذا العدد من الاخوان في البرلمان يضع ناراً تحت اقدام النظام من اجل مزيد من الاصلاحات، الأميركان يرون ضغط الاخوان يدفع النظام المصري لتنمية البدائل وتوسيع دائرة المشاركة لخلق بدائل للتيار الديني، أي ان هذا سيدفع النظام الى تجديد شرعيته بالالتحام اكثر بالشعب، فهل سيخاف الأميركان من الاخوان ويحتضنون النظام كما ترى الاستراتيجية المصرية، ام ان النظام سيستجيب لتحدي الاخوان ويفتح البلد كما يأمل الأميركان؟ وهل الاخوان لاعب اساسي في المعادلة ام ان ما يحدث هو حرفياً «ضحك على الدقون» أي أن الاخوان فقط أداة بين النظام والأميركان.
السؤال الآن هو: هل يتمكن الأميركان أو النظام المصري من السيطرة على الاخوان الذين يظنون أنهم أداة في ايديهم لتخويف كل منهم الآخر؟!
بالتأكيد لن يستطيع اي منهما السيطرة على الاخوان ليس لانهم جماعة منظمة وسرية كما يظن البعض، ولكن لان الاخوان هم جزء من ظاهرة اكبر وهي ظاهرة «مصر المحظورة» التي تتعاظم على حساب «مصر المنظورة»، أي أن الاخوان وأي جماعة محظورة اخرى في مصر هي التي تلبي رغبات المزاج المصري، لان المزاج المصري اليوم يفضل الممنوع على المسموح، يفضل العمل تحت الطاولة عن العمل فوقها، العمل في الظلام لا العمل في النور. هذه ممارسات مصرية يومية، فالمصري اليوم لا يؤمن بالمرور بالقنوات الشرعية القانونية لتحقيق مطالبه بل يفضل الواسطة والتحرك خارج الشرعية.
ما حدث في الانتخابات البرلمانية المصرية هو فوز لمصر المحظورة على مصر الرسمية. ما الحل إذن؟!
الحل هو تقنين مصر المحظورة من المدرسة الى الزواج الى الاقتصاد الى السياسة وادخالها في عالم القانون، الحل يكمن ايضا في ان تقول مصر كلمتها في الاحزاب الورقية الكاذبة القائمة، يكمن الحل ايضا في الاعتراف بأن ما حدث هو نتيجة لابتعاد الشعب المصري عن السياسة، فالذين صوتوا في هذه الانتخابات لا يصلو إلى 20%. هناك 80% من المصريين لم يشاركوا في الانتخابات، ذلك لفقدان الثقة في النظام الرسمي، والقبول بحياتهم في العالم المحظور غير الرسمي. ظاهرة مصر المحظورة تحتاج الى حوار وطني حقيقي، وان الحديث عن الاخوان بمعزل عن هذه الظاهرة هو ضحك على الدقون «وليس حلاً للمشكلة».

0 Comments:

Post a Comment

<< Home