قـــراءات

Wednesday, November 30, 2005

الباشا والفهلوي

جريدة الأهرام
الثلاثاء 9 اغسطس 2005 , ‏4 من رجب 1426 هـ ، ‏السنة 129 ، العدد 43345

بقلم‏:‏ جمال الشاعر


الباشا يسأل الطاهي‏:‏ ماذا تقول في الباذنجان؟ قال‏:‏ حلو لذيذ الطعم‏..‏ رد الباشا‏:‏ لكنه حار يعطش‏..‏ قال الطاهي‏:‏ إنه ملعون لا يؤكل‏..‏ قال الباشا‏:‏ حيرتني إنك كنت تمدحه حالا‏..‏ قال الطاهي‏:‏ أنا خدام الباشا ولست خدام الباذنجان‏..‏ ماذا تفعل لو كنت مكان الطاهي؟ هل ما قاله نفاق أم دهاء أم تحايل علي المعاش؟ سمه ما شئت ولكن هذا المنهج البراجماتي مازال يسيطر علي سلوكنا‏..‏ أحلام سيادتك أوامر‏..‏ شخبطة المحروس ابنك ياأفندم تخطيط لمستقبل حياتنا‏..‏ هل نحن منافقون بالوراثة؟ أم أنه تاريخ من العذابات عاشه الشعب المصري مع السلاطين الذين حكموه عبر التاريخ‏..‏ ففسدت العلاقة وانعدمت الثقة كما تقول هناء الجوهري في كتابها ثقافة التحايل‏..‏ انظر حولك سوف تجد التحايل ينخر كالسوس في كل شيء‏..‏أولا‏:‏ ظاهرة البناء علي الأراضي الزراعية‏..‏ إنه الجنون بعينه أن نبني علي آلاف الأفدنة الخصبة ثم نذهب إلي الصحراء وننفق المليارات لاستصلاح واستزراع الأراضي‏..‏ القانون موجود لكن أي واحد فهلوي سيقول لك‏:‏ القانون حمار‏..‏ ثم يتحايل لنسف المادتين‏152‏ و‏156‏ من قانون الزراعة ليتسلل ببناء مسكن شخصي له علي أرضه ثم يتوسع شيئا فشيئا وتدخل الأرض كردون المباني بعد تقادم ثلاث سنوات علي البناء السري في غفلة من الحكومة أو بغض الطرف منها‏.‏ثانيا‏:‏ العشوائيات ووضع اليد التي يعرفها مجلس الشوري بأنها تجمعات سكانية نشأت في غياب التخطيط العام وخروجا علي القانون‏,‏ وبالتالي لا تصلها الخدمات والمرافق وتكون مناطق محرومة‏..‏ ينتشر فيها الفقر والجهل والمرض‏,‏ وتصبح مفرخة للعنف والإرهاب‏.‏ثالثا‏:‏ احتلال كورنيش النيل بالمباني والأندية لبعض المؤسسات السيادية‏,‏ بالتحايل علي القانون‏,‏ ولكن من سيجرؤ علي الكلام‏...‏رابعا‏:‏ المحليات وتراخيص البناء وتعلية الأدوار بالمخالفة‏..‏ فوضي عارمة‏..‏ ولم يحدث في أية دولة في العالم‏..‏ انهيارات لعمارات حديثة مثلما يحدث في القاهرة والإسكندرية‏.‏الدكتور زكي نجيب محمود يشخص الداء ويقول‏:‏ إن العلاقة التي تربط المواطن بالوطن اتجهت نحو الانتهازية‏,‏ الحصول علي أكبر قدر من الغنائم بأقل قدر من العمل‏..‏ والفائزون هم الأبرع حيلة‏..‏ وكأن الدولة هي جابي الضرائب الشرير الذي يجب التحايل عليه‏.‏ الطريف أن عقلية الفهلوي والمتحايل امتدت إلي التحايل علي الشرع أيضا‏..‏ وتمت أكبر عملية تواطؤ سرية عندما رفع الفهلويون القاعدة الشرعية الضرورات تبيح المحظورات‏,‏ وابتكروا أساليب تحايلية جديدة مثل زواج المسيار‏,‏ وزواج الفريند‏,‏ وتوزيع الميراث علي حياة عينه‏(‏ بيع وشراء للأولاد‏)‏ حتي لا يستفيد الأعمام والأقربون‏..‏ التحايل الشرعي تلخصه الحكاية التالية‏:‏يامولانا‏..‏ الجدار بال عليه كلب‏..‏ فماذا أفعل؟ إنها نجاسة‏..‏ إذن فلابد أن تهدم الجدار وتبنيه سبع مرات‏..‏ لكن أيها الشيخ‏..‏ إنه الجدار الذي يفصل بين بيتي وبيتك‏..‏ إحم‏..‏ إحم‏..‏ إذن القليل من الماء يطهره‏..‏ يابني‏..‏ أولاد البلد بالحس الشعبي العبقري صاغوا مثل هذه النكات والروايات للتدليل علي ظاهرة الفتوي حسب الطلب أو فقه الموافقات‏..‏ الشيخ هنا أعمل مبدأ المواءمة واستخدم المذهب البراجماتي في الحكم‏..‏ المشكلة أنك لو راجعت أحد المتحايلين فسوف يقول لك‏:‏ يارجل لا تكن حنبليا‏..‏ والمعروف أن الإمام أحمد بن حنبل كان متشددا في الحق في مذهبه الفقهي‏.‏ويقول‏:‏ عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان‏!!..‏ يبطلون الأيمان بالحيل‏..‏ أكبر مثال‏..‏ التيس المستعار وهو المحلل المحتال الذي يتزوج امرأة مطلقة ثلاثا‏..‏ تحايلا علي الشرع لتعود إلي زوجها‏..‏ يخادعون الله أم يخادعون أنفسهم؟‏!‏ إن الأمر هنا أشبه بالنكتة الشهيرة‏:‏ يامولانا هل تجوز الصلاة دون وضوء؟ طبعا لا يجوز‏..‏ غريبة ما هو رأيك؟‏!‏ إنني فعلتها ونفعت‏..‏ آفة هذه الأمة هي الأكاذيب‏..‏و خاصة تلك التي يجد لها بعض الفقهاء تخريجا ويقولون إنها أكاذيب عارضة‏..‏ لمقصد شرعي‏...‏والملاوعة والولس هما اللذان أضاعا هذه الأمة‏..‏ المثل يقول‏:‏ الولس قتل عرابي‏..‏ حضارة الغرب لا تحتفي بالدين مثلنا ومع ذلك فهم امتلكوا الفلسفة والحكمة من وراء الدين وهي المصداقية‏....‏ الدين المعاملة‏..‏ ودهشة الإمام محمد عبده مبررة عندما زار فرنسا وقال‏:‏ وجدت إسلاما ولم أجد مسلمين‏..‏ لخص وشخص الداء‏..‏ نحن قوم يقولون ما لا يفعلون‏..‏ أكبر جريمة في الغرب هي الكذب‏..‏ كلينتون وحكاية مونيكا‏..‏ الجريمة الكبري كانت هي الكذب وليس العلاقة الجنسية‏..‏ جان جاك روسو يقول في نظرية العقد الاجتماعي في علاقة الحاكم بالمحكوم‏:‏ إذا أخل أحدهما بشروط العقد وكذب‏..‏ أحل للآخر عدم الالتزام‏...‏من أين نبدأ إذن؟الديمقراطية‏..‏ الشفافية‏..‏ المصداقية‏..‏ إعادة بناء الثقة بين المرء وقلبه وشعبه ووطنه‏..‏ الحكومة مسئولة‏..‏ التشريعات والقوانين العادلة والواقعية هي ترجمة لشفافية الحكمة القائلة‏:‏ إذا أردت أن تطاع فاأمر بما يستطاع‏..‏ قللوا تكاليف التسجيل العقاري أكثر وسهلوا الإجراءات حتي تستعاد ثروة هذه الأمة المهدرة‏..‏ فرناردو دوسوتو صاحب كتاب سر رأس المال يقول‏:‏ إن قيمة العقارات غير المسجلة في الحضر والريف المصري تصل إلي‏480‏ مليار دولار‏...‏أخيرا‏..‏ متي نتوقف عن التحايل الشرعي ونقول علقها في رقبة عالم‏..‏ تطلع سالم‏..‏ ومتي نتوقف عن اللوع وألاعيبه ونستمع إلي نصيحة صلاح جاهين وتحذيراته حين يقول‏:‏ علم اللوع أكبر كتاب في الأرض‏..‏ بس اللي يغلط فيه يجيبه الأرض‏..‏ متي تنتهي لعبة القط والفأر؟ متي تنتهي لعبة الباشا والفهلوي؟‏!‏